في آذار عام 2003، اندلعت حرب العراق بغزو القوات الأمريكية لها؛ متعهدةً بتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، وإنهاء حكم صدام حسين الديكتاتوري. ولكن بعد فترةٍ ليست وجيزة تم إثبات وهمية أسلحة الدمار الشامل، ليعم التمرد والعنف في الأراضِ العراقية ويدخل الصالح بالطالح ليصبح الموضوع حربًا شعبية، وجنسية؛ مجردةٌ من كلّ قيّم ومعالم الإنسانية. استمر هذا الجشع مستمرًا حتى شهر كانون الأول من عام 2011 عندما قامت القوات الأمريكية بالانسحاب تكتيكيًا. وبالعودة إلى عام 2006 وفي قلب الحرب؛ وقعت فاجعة في بيت آل حمزة العراقي؛ ليسجل التاريخ الحدث من أبشع الجرائم آن ذاك وإلى وقتنا الحاضر. حيث ضجت وضاجت الأخبار، والإعلام العربي والعالمي بقصة الفتاة “عبير قاسم الجنابي“. فما الذي حدث بالضبط؟
من هي المجني عليها عبير قاسم الجنابي
إن “عبير قاسم حمزة الجنابي” مجرد طفلة مسلمة تبلغ من العمر 14 ربيعًا. عاشت في غرب منطقة المحمودية الواقعة في دولة العراق مع والدها قاسم الجنابي الذي بلغ 45 عامًا، ووالدتها فخرية طه محسن ذا ال34 عامًا، وثلاثة إخوة وهم هديل ذيّ الـ 6 سنوات، وأحمد 9 سنوات، ومحمد 11 سنة. كانت عبير فتاةٌ تتميز بجمالها الغير لافت فكانت فهي مجرد فتاة عادية بعينين كبيرتين غامقتين، وطولٍ كان يعطيها مظهر وأسلوب الفتاة العشرينية، وثيابها تغطي جسمها من رأسها وحتى أخمص قدميها، أمّا عن شخصيتها فهي مسكينة وبريئة.
كون عبير هي بِكر عائلتها والفتاة الوحيدة لأمها؛ فقد كانت تقوم بجميع أعمال المنزل من نشر الملابس، وتنظيف المنزل، والاعتناء بالحديقة، كما يُذكر أنها كانت طالبةً مجتهدةً محبة للعلم، ولكن والدها فضل أن تترك المدرسة خوفًا عليها من الجنود الأمريكيين اللذين لطالما اعتادوا على انتهاك حرمة الفتيات والتحرش بهن.
تمركزت أحد الحواجز الأمريكية في هذه المنطقة الفقيرة، ولطالما شاهدها الجنود الأمريكيين وهي تقوم بأعمالها بشكلٍ يومي؛ لتطغى عليهم شهواتهم الجنسية ويرتكبون جريمةً بحق الطفلة. حتى ذكرت بعض التقارير أن الأم لطالما كانت خائفةً من الجنود الذين يناظرون ابنتها، كما قدّ ذكر أحدهم موقفًا قصته الأم عليه أنه في يومٍ من الأيام أشاروا الجنود إلى طفلتها، وقاموا بفعلٍ حركاتٍ غريبة والتأشير لها، ولفظ بعض الجمل غير المفهومة من بعيد.
تفاصيل جريمة عبير قاسم الجنابي
في 12 من آذار عام 2006، قام خمس جنود أمريكيين مقنعين على شكل محاربي النينجا والذين ينتمون إلى الفرقة 101؛ باقتحام بيت عبير في وضح النهار، وذلك تحت تخطيطٍ مسبق بحجة أنهم يبحثون عن أسلحة. عندها قاموا بفصل الطفلة عن أهلها بعد مقاومتهم بسلاحٍ بسيط؛ وحبس كلّ منهما في غرفتين منفصلتين، حينها قام جُنديٌ يدعى “ستيفين د. غرين” بقتل والدي عبير وشقيقتها الصغرى شنقًا و رميًا بالرصاص. وفي الجانب الآخر في الغرفة التي تعالت فيها صرخات الطفلة المغدورة عبير، وهي تقاوم، وتبكي، وتلتقط أنفاسها بصعوبة كونها كانت مريضة ربو. فقد قام غرين إلى جانب جنديان آخران بالتناوب على اغتصابها، لينطلق الجاني الأساسي من الجنود”غرين” بجملةٍ: “لقد قتلتهم للتو، كلهم ماتوا”، وبعد فعلته الشنيعة مع الطفلة قام بوضع وسادةٍ على وجهها وأطلق الرصاص في رأسها لتنتهي حياتها فورًا. لكنه لم يكتفي بذلك بلّ أنه قام بصب مادة الكيروسين السائلة المشتعلة عليها، ومن ثم أطلق شرارة نارٍ من جهة جسدها السفلية بقصد إخفاء الجريمة. وبعد ذلك اشتعل البيت بأكمله، وتبقى جثة عبير وأهلها حطامًا مفحمًا.
لفت نظر الجيران منظر النيران الملتهبة من هذا البيت الفقير، حتى يسارع البعض ويخبر عناصر الجيش العراقي للتدخل في القصة. وفي نفس الوقت قاموا المجرمين برمي الأسلحة، وغيروا ملابسهم، وعادوا إلى الحاجز وكأنه لم يحدث شيئًا قط. أمّا شقيقيها أحمد ومحمد فقد كانا في المدرسة، فعند عودتهما وجدا الدخان الأبيض يتصاعد من المنزل والجدران ملطخةٌ بالدماء، وفي غرفة النوم وجدا اختهما محروقة مصابةٌ برصاصةٍ في رأسها، ونصفها عارية. أمّا عن الغرفة الأخرى فقد كان والدهما يرقد في بركة دماء ورأسه متفجر برصاص العدو.
لحظات الكشف عن حقيقة جريمة عبير قاسم الجنابي
حاول الجنود الأمريكيين الآخرين بإشعال فنتةٍ أخرى حين أخبروا الجنود العراقيين الذي وصلوا إلى مكان الحادثة، أنّ المسلحين الإسلام السّنة هم من قاموا بهذا الفعل السيئ. فقد هرعوا وانطلقو إلى اخبار نقطة تفتيشٍ أمريكية بجوار المنطقة بما حدث، وطلبوا المساعدة في التحقيق، حيث ساعدهم الرقيب “أنتوني يريبي كورتيز” في قمع الأدلة، والذي قدّ كشفها عن طريق تعذيبهم، وقتل جنديين آخرين في نفس الفوج العسكري، وجبرهم على أن يقروا الحقيقة؛ وفيما بعد كشف جنديٌ مجهول الهوية عن الحقيقة وأشار إلى المجرمين بالاسم.
صرح الشاب اللئيم ستيفين د.غرين ابن منطقة تكساس الأمريكية، والذي يبلغ من العمر 19 عامًا، بوصف جريمته على أنها “مروعة”، وذلك بعد أن انكشفت الحقيقة. كما ذُكر أحد المواقف للمجرم باركر وهو يشوي أجنحة الدجاج، وغرين ينظر إليه ويقفز على سريره العسكري ويقهقه ويصرخ “كان ذلك رائعًا”. كما أشار باركوير الذي كان يتابع القضية لمدة ثلاث سنوات على أن جرين كان منتشيًا وصعبًا في البداية، إلى أن ذهب إلى الرقيب يربي في إحدى الليالي وأقر وتحمل مسؤولية الجريمة كاملًا دون أن يذكر أصدقائه الأربعة البقية.
محاكمة جناة قضية عبير قاسم الجنابي
تم الحكم على المجرمين الأربعة الذين شاركوا في الجريمة على أحكامٍ مطولةٍ في السجون العسكرية، ولفترةٍ تتراوح من الـ 50 إلى أكثر من 100 عام. ليحكم على جيمس باركر بالسجن 90 عامًا، وبول كورتيز بالإعدام، ولكن تمّ تجنيبه من العقاب والحكم عليه بالسجن لمدة 100 عامًا؛ نظرًا لأنه اعتراف بارتكاب الجريمة، وجيسي سبيلمان لمدة 110 عامًا، وبريان هوارد أيضًا بهذه الحدود. أمّا عن حُكم “جرين” المفتعل الأساسي كان فريدًا من نوعه، فقد تم تشخيصه بمرضٍ نفسي وهو اضطراب “الشخصية المعادية للمجتمع” وتم إحالته من الجيش على الفور، لتكشف التحقيقات على أنه كان من أكثر الجنود الجزارين والمجرمين بحق الشعب العراقي. والذي أقر بعظمة لسانه عن كرهه الشديد لهم، وأنه لطالما اعتاد على الاستمتاع بقتلهم حين قال “لا أجد كلمة يمكن أن تصف مدى كراهيتي للعراقيين، فلم أفكر أن هؤلاء الناس ينتمون للجنس البشري”.
وبما أنه تم تسريحه فقد استطاع المدعون العامون أن يوجهوا أصابع الاتهام إليه؛ وذلك استنادًا إلى القانون العام رقم 2000 الذي منح الحكومة الفيدرالية الاختصاص القضائي؛ متابعة القضايا الجنائية ضدّ المواطنين الأمريكيين وجنودها الذين يرتكبون الجرائم بحق الدول الأجنبية. حيث كانت هذه اللجنة تتألف من تسع نساء، وثلاثة رجال، وهي أول هيئة محلفين مدنية تحاكم جنديًا أمريكيًا خلال فترة خدمته.
تفاصيل محاكمة الجاني الأساسي في قضية عبير قاسم الجنابي
استنادًا إلى وزارة العدل الأمريكية. يسمح القانون للمدعين العامين بإنشاء ولاية قضائية اتحادية على الجرائم المرتكبة خارج أراضِ الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك من قِبل الأشخاص العاملين في القوات المسلحة أو التابعين أو المرافقين لها. أو حتى من قِبل أفراد القوات المسلحة الذين تم إطلاق سراحهم، أو فصلهم عن الخدمة، والمقاضاة، والحكم عليهم بسبب ارتكابهم هذه الجرائم.
لربما يعفي هذا القانون على بعض الجرائم التي تخص القوات، ولكن مثل الجريمة التي ارتكبها جرين؛ لم تكن هناك رحمة في الحكم عليه. ليحكم القانون عليه في الرابع من كانون الأول بالسجن المؤبد دون الإفراج المشروط في سجن كارولينا الشمالية، وذلك بعد مناوشاتٍ فيدرالية التي نصت على فيما بعد شنقا حتى الموت؛ ولكنها تراجعت عن الحكم وأقرت حبسه لمدة 150 عامًا. فقد صور المدعون أثناء محاكمته على أنه زعيم عصابة سفاحة تتألف من خمسة جنود تآمروا واتفقوا على اقتحام أسرة مكونة من أربعة أفراد بهدف اغتصاب فتاة، والتفاخر بفعلتهم فيما بعد. ولكن لم يتحمل جرين الأمر بلّ أنه كان يقول “أود أن أكمل حياتي ويتم الأفراج عنّي، وأن الرب سوف ينصره”. بعد مرور الأيام والسنين تحول تحول إلى جلدٍ وعظم؛ فحسب الصحف التي قال أن جرين بدأ يعيش حياته يومًا بعد يوم مجردًا من الأمل. حيث أنه بدأ يشعر بالندم على ما فعله بتلك الاسرة العراقية، ليحكم على نفسه بدلًا من القانون، بالانتحار شنقًا في زنزانته في يوم السبت الواقع في 19 شباط عام 2014.
آراء بعض عائلة الجنابي على قضية ابنتهم عبير قاسم الجنابي
كان لعيلة الجنابي آراءً مختلفةً عن ما أقره القانون بحق مفتعلي الجريمة. فقد صرح أحد شيوخ الجنابي “فاضل الجنابي” أن العقوبات التي أقرت ما هي إلا إهانةٌ لشرف العراق. كما رفض وقال “سمير صبري الجنابي” أنّه وفقًا للأعراف العشائرية المعروفة على أراضيهم؛ كان يجب أنّ يُقتل هذا الجندي أمام أعين الجميع، ويُصلب جزاءً بما فعله بطفلتهم”. كما صَرح أحد شيوخ عشيرة الربيعة في منطقة المحمودية؛ والذي يدعى “عمّاش الربيعي” أن العراقيون لن يرضوا بحكمٍ أخف من الموت، وإن هذا الجندي الجشع المحتل قدّ انتهك المحرمات، وعقابه الوحيد هو الموت ليكون عبرةً لمن اعتبر.
أسباب التمسك بقضية عبير قاسم الجنابي
حقيقةً اعتاد القانون الأمريكي على التساهل مع الجرائم التي يرتكبها عناصرهم وقواتها العسكرية، فلم تكن قضية عبير الوحيدة، فهي مجرد عينةٍ من ضحايا حرب العراق. تدمير حياة أسرةٍ كاملة، وقتل بطريقة وحشية، وتيتيم أشقاؤها، ومع ذلك سمحت الحكومة الأمريكية بعد فترةٍ ليست ببعيدة بأفعالٍ مشابهةٍ في أبو غريب.
ولكن كان لقصة عبير منظور آخر تمامًا. فلم يسكت الإعلام العالمي والرأي العام عن القضية في عام 2006، فقد بقيت عبير في أذهان لعالم والمدونين في جميع أنحاء العالم؛ وجميعهم بنفس النية وهي الانتقام من المفتعل.
كما أن جرين كان مستفزًا بتصريحاته وأقواله، فهو مجرد من كلمة إنسانية، وشاذٌ، ومريضٌ نفسي. فقد صَرح في إحدى مقابلاته في العراق وقال: أتيت إلى هنا لأنني أردت قتل الناس…أعتقد أن قتل شخص ما سيكون تجربة ستغير حياتك، ثم فعلت ذلك…أعني أن تقتل شخصًا ما سيكون مثل حسنًا دعنا نذهب للحصول على بعض البيتزا…أريد أن أعود إلى المنزل حيًا أنا لا أعطي كل شيء في العراق…هذه الحرب تختلف عن الحروب الخاصة بآبائنا وأجدادنا، فتلك الحروب كانت من أجل شيء، أمّا هذه الحرب من أجل لا شيء”. هذه الأقوال كانت سببًا في إغاظة الأغلبية، والاهتمام أكثر بالقضية والمطالبة بالعقاب الشديد.
كما قامت حكومة الولايات المتحدة بالتفكير فيما إذا سمحت لهذه الجرائم بالاستمرار، فإنها ستكون قدّ شجعت على ارتكاب الجرائم والجشع، وليس فقط الحكومة من قامت بمعاقبة المجرمين. بلّ تدخلت حقوق الإنسان أيضًا، وجميع المنظمات والصحف الإنسانية بالتحدث عن القضية ودعمها. حقيقةً ما زال العديد من الناس والإعلام يَذكر هذه الحادثة، بالرغم من ممات الجاني والمجني عليها منذ سنواتٍ عديدة، ولكن تعتبر مفتوحة إلى وقتنا هذا.
كما كانت أقوال أشقائها الأصغر تفطر القلب. حيث صرح محمد وأحمد أن منظر أسرتهم بهذا الشكل سببت لهم صدمةً نفسية وغيرت طريق أحلامهم، حيث أنهم قرروا ترك المدرسة بحجة محمد الذي قال “أنا أرفض الذهاب، ليس لدي مزاج للدراسة”. أمّا عن أحمد فقد قرر أن يصبح شرطيًا فقد قال” أريد أن أصبح شرطيًا، حتى أتمكن من حماية نفسي والفقراء الآخرين”.