كانت حقبة حظر الكحوليات في أمريكا واحدة من أخطر الحقب من حيث انتشار الجريمة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أصبحت نيويورك مركزًا من مراكز المافيا في امريكا والجريمة المنظمة في الولايات المتحدة، واكتسبت العديد من العائلات صيتًا كبيرًا في عالم الجريمة، وشهدت الولايات المتحدة في تلك الفترة العديد من التحولات في عالم الجريمة المنظمة مثل ما حدث قبل وبعد حرب كاستيلاماريس.
ومنذ فترة قريب ظهرت اعترافات من داخل مكاتب التحقيق الفيدرالي الأمريكية حول أهمية تلك الحرب، ودورها المحوري في تحول العصابات الإيطالية في نيويورك من كونها مجموعة من الفصائل الإجرامية المنقسمة إلى نقابة إجرامية منظمة وقوية تعمل بكفاءة عالية، والتي تم تأسيسها في ثلاثينيات القرن الماضي بواسطة “تشارلز لوتشيانو”، وعُرفت تلك النقابة الإجرامية باسم “La Cosa Nostro”.
تنامي عالم الجريمة المنظمة
كانت حرب كاستيلاماريس صراعًا مملوءًا برائحة الدم، وصوت طلقات الرصاص من أجل السلطة، والسيطرة على المافيا وعالم الجريمة في أمريكا، حيث وقعت حرب كاستيلاماريس بين فبراير 1930 وأبريل 1931 ميلاديًا، ويأتي اسم حرب كاستيلاماريس نسبةً لبلدة (Castellammare del Golfo) الواقعة في جزيرة صقلية والتي كانت مسقط رأس “سلفاتور مارانزانو”.
ويعد “سلفاتور مارنزانو” من أقوى زعماء المافيا الصقلية –La Cosa Nostro– في مدينة نيويورك، وفي تلك الفترة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وازدياد الكثافة السكانية والمجموعات العرقية المختلفة في مدينة نيويورك بدأت الجريمة تتنامى، حتى أصبحت نيويورك هي مركز الجريمة المنظمة بالولايات المتحدة الأمريكية خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
تقاسمت ثلاثة فرق من المافيا في امريكا الجريمة؛ مجموعات العصابات الأيرلندية، ورجال عصابات اليهود، وبالطبع المافيا الإيطالية، ولعبت تلك الفرق الثلاث أدوار مهمة في حرب كاستيلاماريس، وكانت المافيا في ذلك الوقت تحت سيطرة “جوزيبي ماسيريا”.
تأسيس المافيا الإيطالية
وحتى نفهم أحداث حرب كاستيلاماريس علينا الرجوع بالوراء إلى عام 1900 ميلاديًا، في تلك الفترة التي بدأت الجريمة الأمريكية المنظمة بشق طريقها، كان “فيتو فيرو” من أوائل الأعضاء البارزين في عائلة “موريلو” الإيطالية، ولكنه فر من الولايات المتحدة بسبب إصدار شرطة نيويورك أمرًا بإحضاره لتورطه في جريمة قتل.
ترقى “فيتو فيرو” في صفوف المافيا في صقلية، بحيث يكون هو من يوجه رئيسه “سلفاتور مارانزانو” إلى إدارة أعمال المافيا الصقلية في الولايات المتحدة، ولكي يسيطر على جميع عمليات المافيا الإيطالية في الولايات المتحدة، وقد صار “فيرو” بعد ذلك رجل عصابات أسطوري لدى عصابة “موريلو”.
حرب المافيا الأولى في امريكا
بحلول عام 1916 أطلقت عائلة “موريلو” مصطلح المافيا لأول مرة على العصابة؛ وهو مصطلح صقلي الأصل، وصارت عائلة “موريلو” واحدة من أكبر مجموعتين إجراميتين إيطاليتين في مدينة نيويورك، وأثناء وجود عائلة “موريلو” في منهاتن بدأوا في اعتراض عصابة إيطالية أخرى تُدعى “كامورا”، لتواجه العصابتان بعضهم البعض في حرب المافيا الأولى في نيويورك، وامتدت من عام 1915 إلى عام 1917 ميلاديًا بعد عام من اندلاع الحرب العالمية الأولى.
في عام 1916 خرج العضو البارز الجديد في العائلة “جو ماسيريا” من السجن، لينضم إلى عصابة “موريلو” ويشارك معهم في نضالهم ضد مجموعة “كامورا”، وبعد العديد من الاعتقالات والإدانات بقتل عدد من أعضاء المافيا، انهارت مجموعة “كامورا”، ونجحت عائلة “موريلو” في الانتصار في حرب المافيا الأولى.
انشقاق العائلة
أُعتقل كلٌ من؛ “جوزيبي موريلو”، “إيجنازيو لوبو” بعد حرب المافيا الأولى، وبالتالي أصبح “سالفاتور داكيويلا” رئيسًا للمافيا في مانهاتن، أمر “داكيويلا” بقتلهم مع قتل “ماسيريا” أيضًا، ولكن فشلت محاولات اغتيال الرجال الثلاث، وبدأت حرب جديدة بين “ماسيريا” و”موريلو” و”لوبو” ضد “داكيويلا”، وانقسمت العائلة أو العصابة إلى اثنتين؛ عائلة “موريلو” وعائلة “داكيويلا” وبدأت حرب جديدة انتصر فيها “داكيويلا” في عام 1922، ليصير رئيس أكبر عصابة للجريمة المنظمة في أمريكا، ويرأس عصابة “موريلو”.
انضم العديد من أعضاء كامورا السابقين إلى عائلة “موريلو”، وصارت المافيا الصقلية تضم العديد من الأفراد من جنوب إيطاليا، ومن بين أولئك الأعضاء الجدد “تشارلز لوتشيانو”، بالرغم من كونه صقلي الأصل، إلا وأن “لوتشيانو” لم يكن جزءًا أبدًا من المافيا الصقلية
صوت حرب كاستيلاماريس في الأُفق
نشأ “ليتشيانو” في حي “فايف بوينتس” بعد أن انتقلت عائلته من صقلية وقضى حياته في الجانب الشرقي، وكان يلتقي هناك بفتي يهودي من روسيا يُدعى “ماير لانسكي”، وتعرف من خلاله على صبي يهودي آخر يدعى “بينيامين سيجل”، ومع تقدم الثلاثة في العمر انضم كل منهم إلى مجموعات مختلفة من المافيا.
بالرغم من كون “لوتشيانو” فردًا من عائلة “ماسيريا”، إلا وأن نشأته هيأت له التعامل وبشكل وثيق مع رئيس المافيا اليهودية “أرنولد روثيستين”، بالإضافة إلى صديقه القديم “لانسكي”، ووقف جنبًا بجنب مع “فيتو جينوفيز” و”فرانك كوستيلو”؛ وكلاهما من زعماء المافيا المستقبليين، وبحلول عام 1929، توترت الأمور ونشأ صراع مشابه لذلك الذي كان في عام 1915، إذ طور “ماسيريا” اشتباكًا قويًا مع عائلة كاستيلاماريس، لتبدأ حرب كاستيلاماريس في عام 1930.
بداية حرب كاستيلاماريس
في تمام اليوم السادس والعشرين من فبراير في عام 1930، بدأت حرب كاستيلاماريس بمقتل “جيتانو رينا”، والذي كان رئيسًا لعائلة إجرامية، لم تكن بالكبيرة ولكن كان لها دور بارز في عالم الجريمة، إذ كانت تسيطر على أجزاء من برونكس وهارلم، وقد كانت جزءًا من عائلة “موريلو” ولكن انفصلت عنها وقت حربها مع “داكيويلا”.
قُتل “رينا” على يد “فيتو جينوفيز” بتوجيهات من “ماسيريا”، وتم استبدال “رينا” بآخر يدعى “جوزيف بينزولو” للسيطرة على شركات مضرب الجليد، ومن ثم جاءت الجولة الثانية من الحرب في شهر أغسطس من نفس العام، عندما قٌتل الرئيس السابق لعائلة موريلو “جوزيبي موريلو” على يد مسلحون تابعون لعائلة “رينا” وكانوا موالين لعائلة كاستيلاماريس.
بعد تلك الحادثة بأسبوعين بدأت الحرب تزداد توترًا وقُتل “جوزيف بينزولو” في ميدان التايمز، وبحلول شهر أكتوبر أمر الزعيم “ماسيريا” بضرب “جو أيلو” والذي يعد حليفًا لكاستيلاماريس، وقد قاد إحدى المجموعات السياسية في صقلية أيضًا، وفي نوفمبر رد “مارانزانو” على “ماسيريا” بقتل “مانفريدي منيو”، ورئيس إحدى العصابات الموالية لماسيريا، بالإضافة إلى ملازم “ماسيريا” وكلهم قُتلوا في نفس اليوم.
خيانة مدوية ونهاية الحرب
تحولت حرب كاستيلاماريس من حرب الأعيرة النارية إلى حرب الولاء والخيانة، وأظهرت الحرب الهشاشة النسبية للولاء العائلي للعديد من أفراد العصابات الأقل في الرتبة، وانشق العديد من حلفاء ماسيريا وانضموا إلى كاستيلاماريس، فتدهورت الأوضاع أكثر فأكثر، وبدأ حلفاء ماسيريا في التواصل مع زعيم كاستيلاماريس، وتم إبرام صفقة مع “لوتشيانو” وإنهاء الحرب، وفي الخامس عشر من أبريل من عام 1931، تم تدبير لقاء مع “ماسيريا” في مطعم (Nuova Villa Tammaro) في كوني آيلاند ونُفذت المهمة وقُتل “ماسيريا”.
لم تتمكن الشرطة من معرفة ماذا حدث بالفعل وقتها، ولكن ما تم تداوله على الألسنة أن ماسيريا كان جالسًا على الطاولة، وكان يلعب الورق مع رجلين أو ربما ثلاثة مجهولي الهوية، وأُطلق النار على “ماسيريا” من الخلف، ليموت بعد ذلك متأثرًا بجراحه، وبعد وفاة “ماسيريا” انتهت حرب كاستيلاماريس أخيرًا، وبدأ هيكل الجريمة المنظمة في أمريكا يتغير، وقُسمت المافيا الإيطالية في مدينة نيويورك إلى خمس عائلات، ولكل عائلة رئيس ونائبه وقائدًا للجنود وبالطبع جنوده، ليبدأ عصر جديد من الجريمة المنظمة والمافيا في أمريكا.